منقول من موقع قصه الاسلام للدكتور راغب السرجانى

http://www.islamstory.com/

استكمالا لما بدأناه من قصه الفتح الاسلامي لمصر

المواضيع فى نفس السياق يرجى مراجعه الرابط الاتى

اضغط هنا


التسامح الديني

وهذا جانب جديد من جوانب النزعة الإنسانية في حضارتنا الخالدة، جديد في تاريخ العقائد والأديان، وجديد في تاريخ الحضارات القديمة التي ينشِئُها دين معين أو أمة معينة، لقد أنشأ الإسلام حضارتنا فلم يضق ذرعًا بالأديان السابقة، ولم يتعصب دون الآراء والمذاهب المتعددة، بل كان شعاره {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17-18]. ومن أجل ذلك كان من مبادئ حضارتنا في التسامح الديني:

1- أن الأديان السماوية كلها تستقي من معين واحد: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13].

2- وأن الأنبياء إخوة لا تفاضل بينهم من حيث الرسالة، وأن على المسلمين أن يؤمنوا بهم جميعًا: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136].

3- وأن العقيدة لا يمكن الإكراه عليها، بل لا بد فيها من الاقتناع والرضا {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّين} [البقرة:256]، {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين} [يونس:99].

4- وأن أماكن العبادة للديانات السماوية محترمة، يجب الدفاع عنها وحمايتها كحماية مساجد المسلمين {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40].

5- وأن الناس لا ينبغي أن يؤدي اختلافهم في أديانهم إلى أن يقتل بعضهم بعضًا، أو يعتدي بعضهم على بعض، بل يجب أن يتعاونوا على فعل الخير ومكافحة الشر {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَان} [المائدة:2].

أما الفصل بينهم فيما يختلفون فيه، فالله وحده هو الذي يحكم بينهم يوم القيامة: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة:113].

6- وأن التفاضل بين الناس في الحياة وعند الله بمقدار ما يقدم أحدهم لنفسه، وللناس من خيرٍ وبِرٍّ "الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله" (رواه البزار)، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].

7- وأن الاختلاف في الأديان لا يحول دون البر والصلة والضيافة {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5].

8- وإن اختلف الناس في أديانهم، فلهم أن يجادل بعضهم بعضًا فيها بالحسنى، وفي حدود الأدب والحجة والإقناع {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]. ولا تجوز البذاءة مع المخالفين، ولا سب عقائدهم ولو كانوا وثنيين {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108].

9- فإذا اعتدى على الأمة في عقيدتها، وجب رد العدوان لحماية العقيدة ودَرْءِ الفتنة {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193]، {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} [الممتحنة:9].

10- فإذا انتصرت الأمة على من اعتدى عليها في الدين، أو أراد سلبها حريتها، فلا يجوز الانتقام منهم بإجبارهم على ترك دينهم، أو اضطهادهم في عقائدهم، وحسبهم أن يعترفوا بسلطان الدولة، ويقيموا على الإخلاص لها حتى يكون "لهم ما لنا وعليهم ما علينا".

هذه هي مبادئ التسامح الديني في الإسلام الذي قامت عليه حضارتنا، وهي توجب على المسلم أن يؤمن بأنبياء الله ورسله جميعًا، وأن يذكرهم بالإجلال والاحترام، وأن لا يتعرض لأتباعهم بسوء، وأن يكون معهم حسن المعاملة، رقيق الجانب، لين القول، يحسن جوارهم، ويقبل ضيافتهم، وأوجب الإسلام على الدولة المسلمة أن تحمي أماكن عبادتهم، وأن لا تتدخل في عقائدهم، ولا تجور عليهم في حكم، وتسويهم بالمسلمين في الحقوق والواجبات العامة، وأن تصون كرامتهم وحياتهم ومستقبلهم كما تصون كرامة المسلمين وحياتهم ومستقبلهم.

وعلى هدي الرسول الكريم في تسامحه الديني ذي النزعة الإنسانية الرفيعة، سار خلفاؤه من بعده، فإذا بنا نجد عمر بن الخطاب وقد شكت إليه امرأة مسيحية من سكان مصر أن عمرو بن العاص قد أدخل دارها في المسجد كرهًا عنها، فسأل عَمْرًا عن ذلك؛ فيخبره أن المسلمين كثروا وأصبح المسجد يضيق بهم، وفي جواره دار هذه المرأة، وقد عرض عليها عمرو ثمن دارها وبالغ في الثمن فلم ترضَ، مما اضطر عمرو إلى هدم دارها وإدخاله في المسجد، ووضع قيمة الدار في بيت المال تأخذه متى شاءت.

ومع أن هذا مما تبيحه قوانيننا الحاضرة، وهي حالة يعذر فيها عمرو على ما صنع، فإن عُمر لم يرضَ ذلك، وأمر عَمرًا أن يهدم البناء الجديد من المسجد، ويعيد إلى المرأة المسيحية دارها كما كانت!!

هذه هي الروح المتسامحة التي سادت المجتمع الذي أظلته حضارتنا بمبادئها، فإذا بنا نشهد من ضروب التسامح الديني ما لا نجد له مثيلاً في تاريخ العصور حتى في العصر الحديث!!

ومن مظاهر التسامح الديني أيضًا أن كانت المساجد تجاور الكنائس في ظل حياتنا الخالدة، وكان رجال الدين في الكنائس يعطون السلطة التامة على رعاياهم في كل شئونهم الدينية والكنسية، لا تتدخل الدولة في ذلك، بل إن الدولة كانت تتدخل في حل المشاكل الخلافية بين مذاهبهم، وتنصف بعضهم من بعض، فقد كان الملكانيون يضطهدون أقباط مصر في عهد الروم ويسلبونهم كنائسهم، حتى إذا فتحت مصر ردَّ المسلمون إلى الأقباط كنائسهم وأنصفوهم.

أما حرية رجال الدين في طقوسهم، وإبقاء سلطاتهم على رعاياهم دون تدخل الدولة في ذلك، فقد شعر المسيحيون من سكان البلاد بالحرية في ذلك ما لم يشعروا ببعضه في حكم الروم.

وثيقة الصلح مع أهل مصر

كانت وثيقة الصلح التي عقدها عمرو بن العاص t مع أهل مصر إحدى مظاهر التسامح الديني، فقد تمتع المصريون من خلالها بحرية دينية كاملة لم يعهدوها من قبل، وهذا نص الوثيقة:

"بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر، الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم، وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص، ولا يساكنهم النوب، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف، وعليهم ما جنى لُصوتُهم (جمع لِصْت، وهو اللص)، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رُفِعَ عنهم الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى، رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم والنوب فله مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثلاثًا في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله، وذمته وذمة رسوله، وذمة الخليفة أمير المؤمنين، وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسًا، وكذا وكذا فرسًا، على ألا يُغْزَوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة. شهد الزبير وعبد الله ومحمد ابناه، وكتب وردان وحضر".

وتبرز من خلال هذه الوثيقة مجموعة من المعطيات المهمة:

1- ضمان الحرية الدينية، والتعهد بحماية ممتلكات الكنائس والأديرة.

2- ربط قضية الجزية بالقدرة على دفعها، فإذا كانت السنة خيرة بعطائها الزراعي تمَّ دفع الجزية بحسب ما هو مقرر "خمسين مليون"، أما إذا كان الفيضان ضعيفًا وكان الإنتاج الزراعي قليلاً تمَّ تخفيض الجزية بما يعادل "إجداب الأرض وضعف إنتاجها".

3- تقسيم الجزية على ثلاثة أقساط بما يتوافق والتكوين الاقتصادي للإقليم.

4- إعطاء الأمان لمن يرفض دفع الجزية حتى يغادر أرض مصر.

5- شمول الجزية لمن يريد المصريون إدخاله في الجزية من أبناء الشعوب الأفريقية التي لم يفتح المسلمون بلادهم.

6- إسقاط واجب الحرب عن المواطنين ممن يدفعون الجزية.

7- إطلاق الحرية التجارية وحرية التنقل دون قيود.

8- إعطاء ذمة الله ورسوله.